الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

بقايا حنين


 ها قد طل علي اليوم الذي أنتظره كل عام, يوم تقابلنا, و الذي يوافق صدفة يوم رحيلنا. هل تذكر معي أم أتذكر وحدي. في هذا اليوم أترك منزلي و أسير إلي الحديقة المجاورة, أحب أن أرى كل شيء نضر كما كان أيام الشباب. أسير ببطء متوكأة بسنيني الستين على عصى أيامي الباقية, أعطي ظهري لشمس الذكريات فترسم على الطريق أمامي ظل لشبح باقي بأمل أصبح حلم بعيد المنال. أجلس على مقعد في مكاني المعتاد تحت ظل الشجرة الكبيرة و أخرج من حقيبتي قطعة من الحلوى, أغمض عيني و أنا أكلها, تعصف بي أمواج الحنين و تقذف بي إلى أيام ليتها دامت, فأعود فتاه لا يتجاوز عمرها الخامسة و العشرون أيام كنا  نسرق من العمر لحظات و نستهين بالأيام, فاللحظات عندنا كانت تشبع عطش سنين تالية.. أه من السنين, كنا نستخف بالعمر حتى أذاقنا كأس الألم و الفراق و ابتعدنا بلا هدف كما اقتربنا بلا سبب.

أخرجت من حقيبتي ورقة و قلم و بدأت أكتب:

     " هذا هو خطابي الثالث و الثلاثون كما تعرف, لقد تعودت في هذا اليوم من كل عام أن أكتب إليك رسالة لن تقرأها. أعود و أسأل نفس السؤال للمرة المليون في حياتي و المرة الثالثة و الثلاثون في خطاباتي, كيف حدث ذلك ؟ و كيف سمحنا به ؟ هل استسلمنا لنشوة الألم و أدمنا الضياع؟ هل خفنا المواجهة و اعتدنا الرحيل؟ لقد اقتلعنا بعضنا من حياتنا كما يقتلع البستاني الأعشاب الجافة من أرضه,  فهل جف حبنا حتى نستحق هذا المصير المؤلم؟ و إذا كان كذلك, لم كل هذا الألم و الإشتياق كل هذه السنين؟".

      ترتجف يدي فأتوقف عن الكتابة. أملأ صدري بالهواء علٌه يطفيء النيران التي تلهبها شمس الذكريات. أفتح المظلة و أوجهها نحو الشمس راجية أن ترحمني قليلا مما أنا فيه. تشفق الحياة على حالي فتبعث لي بذكرى لطيفة تجعلني أبتسم و تتراقص الدموع في عيني. يالروحي الشائخة, لم أعد أحتمل لحظات الفرح مثلما لم أعد أحتمل لحظات الأسى فتدمع عيناي من أي ذكرى.  أتمالك نفسي و أطوي مظلتي و أعود للكتابة من جديد:

      " اشتقت إليك فهل اشتقت لي؟ ترى ماذا فعلت في حياتك؟ هل تعودت على فراقي و بدأت حياتك من جديد؟ أذكر وداعنا الأخير, رغم ألم الفراق بدا على كلانا الفتور و كأننا نتسابق من الأقوى و الأقدر على التحمل فاستحقينا ما نحن فيه الأن. لما أجمعنا سويا في الألم؟ أنا فقط من يشعر به و يعيش له, أنت أكملت حياتك بدوني و استطعت النسيان فهنيئا لك بما أنت فيه و سعيدة أنا من أجلك و أشعر أني جزء منه و إن لم أشارك فيه. و لم لا أسعد, أليس هذا ما كنت أريده؟ أن تكون سعيد؟.
       لن أعدك برسالة جديدة العام القدم فانا لا أضمن صمودي لعام أخر, و لكني أعدك أن يظل حبك في قلبي طالما نبض..."

      أطوي الرسالة و أضعها في ظرف  و أتركها على المقعد و أقوم لأرجع بنفس البطء إلى منزلي مرة أخرى متكأة على عصاي و مستقبلة بوجهي و قلبي شمس الذكريات الدافئة الباردة. أغلق الباب خلفي و أذهب لأشرب كوب ماء. يدق جرس الباب, يتملكني شعور غريب ألا أفتح, أنا لا أنتظر أحد. و أنا أفكر أجدني أقف أمام الباب و أدير المقبض. لا يوجد أحد على الباب و لكن يوجد رسالة مطوية كتلك التي تركتها في الحديقة. أنظر مرة أخرى حولي في خجل, "ترى من أحضرها؟ هل قرأها أحد فجاء بها ليهزأ بي؟" انطلقت الدموع من عيني دون مقدرة مني على كفها. أنحني لا أرى أمامي لأخذ الورقة و أغلق الباب. "هذه أخر رسالة أكتبها, لن أستطيع احتمال المزيد. لقد قست قلوب الناس لدرجة أباحت لهم الاستهزاء بمشاعر عجوز لم يعد لها من حطام الدنيا سوى ذكريات و بقايا حنين". أفتح الخطاب و كأني أفتح جرح لا يلتئم منذ سنين فيعود لينزف من جديد.      تتجمد دموعي في عيني كحبات ماس, ويخفق قلبي بدفء منسي فتذوب غلالة الثلج التي تغطيه منذ سنين في لحظة واحدة. أغمض عيني هنية ثم أعود لأفتحها بأقصى اتساع ممكن حتى تستوعب ما تراه, إنه ليس بخطي و لا بكتابتي, أتلمس الكتابة في الورقة فتختفي علامات السنين و ألامها من وجهي و يسكن السواد مكانه من شعري مرة أخرى. أقرأ في الخطاب:

      " أعلم أنكِ لست محتاجة أن تقرأي خطابي لتتعرفي إلي, فأنا متأكد أنك تذكرين كل شيء حتى خط يدي. دعيني أجيبك عن تساؤلاتك الحائرة أعوام, و لكن هل أنت فعلا محتاجة لإجابة عليها؟ لقد بدأت خطابك الأخير بسؤالي كيف حدث هذا؟ إذا عرفنا إجابة هذا السؤال تحديدا نكون قد أهدرنا عمرنا نتصور الوهم حياة, نكون قد بخسنا إحساسنا حقه. هناك أشياء بهاؤها و غلاوتها تكمن في عدم معرفتنا كيف و متى حدثت, يكفي أننا استحقينا نعمة الشعور بها.أما كيف ابتعدنا؟ فكما اقتربنا ليس إلا. قد تكوني محقة أننا اعتدنا الألم و أدمنا إحساس المظلوم الذي قهر بيد الظالم و نسينا أن كل منا ظالم و مظلوم, نحن متعادلين في كل شيء, ولعل هذا سبب احتفاظنا بالحب كل هذه السنين. نعم أنا على عهدي معك أعيش على ذكريات قديمة مثلما تفعلي أنت. في البداية كان الألم شاق لا يحتمل, فكنت أتي و أراقبكِ من بعيد, أراكي في حركتك و في سكونك, أُسكن جراحي عندما أجدك تقاومين الإنهيار, حتى انقضى أول عام. أخر يوم رأيتك عندما خرجت إلى الحديقة المجاورة لمنزلك و كتبتي ورقة و تركتيها على المقعد و رحلتي, وجدتني أذهب لأقرأ الورقة و كأني كنت أعلم أنها لي, و كأنك لم  تجهلي وجودي, فهمت من بعدها أن موعدنا في هذا التوقيت من كل عام لأسكب في قلبي حياة كاملة تكفيني لعام أخر قادم, و قد ارتضيت بهذه الحياه بديلا. اشتاق إليك كما تشتاقي لي, و تمر السنين و لا يتغير أي شيء فماذا نفعل في أنفسنا, وهل لنا حيلة في قلوبنا؟ ترتسم على وجهي الأن ابتسامة لذكرى باهتة تتجدد ألوانها و أنا أكتب إليك الأن...
     أنا غاضب منك و مصر على وعدك لي برسالة جديدة العام القادم و إلا كيف سأصبر على حياتي لعام أخر, ألم تفهمي بعد أن كلانا يعيش من أجل الأخر؟
      موعدنا العام القادم فإلى اللقاء.
 ملحوظة: لم تتغيري بعد كل هذه السنين...".

     أطوي الرسالة بعناية و أذهب لأضعها تحت وسادتي ثم أعود لأخذ إناء الزهور وقد أبقيت به زهرة واحدة, أضعها أمام الباب ثم أغلق الباب مرة أخري لأعود بعد دقائق لأخذ الإناء و قد اختفت منه الزهرة و أغلق الباب على من جديد.

-تمـــــــــــــــــــــت-      
                                                                                                         19-12-2010       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق